إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه
إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه
سطَّرَ العلماء الدواوين الكثيرة في ترجمة الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه الملقب بإمام دار الهجرة النبوية على ساكنها أفضل سلام وأزكى تحية، وقد لخصت من تلك التراجم العطرة ما كتبه أستاذنا فضيلة الشيخ عبدالرؤوف بن مبارك المالكي الأزهري من علماء مملكة البحرين من كتابه المسمى (المقتبس من مناقب النجم الثاقب الإمام مالك بن أنس)، فإلى تلك السيرة المباركة، لعلم من أعلام الأمة المحمدية.
نسبه ومولده:
هو شيخ المسلمين، حجة الأمة،
إمام دار الهجرة، أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبى عامر بن عمرو الحِمْيَري
ثم الأصبحي المدني.
أما جده الأول "أبو
عامر بن عمرو" فقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم.
وأمّ الإمام هي العالية
ـ وقيل الغالية ـ بنت شريك الأزدية.
ولد مالك على الأصح في
ربيع الأول سنة 93هـ بذي المروة، عام موت أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، نشأ
في صَوْن ورفاهية وتَجَمُّل، وكان يعمل مع أخيه النضر في بيع الثياب المعروفة بالبَزّ،
وكان ينـزل أولا بالعقيق ثم نـزل المدينة.
صفة الإمام مالك:
عن عيسى بن عمر قال:
"ما رأيت قط بياضا ولا حمرة أحسن من وجه مالك، ولا أشد بياضَ ثوبٍ من مالك".
ونقل غير واحد أنه كان
طُوَالاً جسيما، عظيم الهامة، أشقر أبيض الرأس واللحية، عظيم اللحية أصلع، وكان لا
يحلق شاربه ويراه تغييراً لخلق الله.
وقال محمد بن الضَّحَّاك
الحِزامي: "كان مالك نقي الثوب رقيقه يكثر اختلاف اللبوس".
وقال أَشْهَب: "كان
مالك إذا اعتم جعل منها تحت ذَقَنِه ويسدل طرفها بين كتفيه".
طلبه للعلم:
بدأ الإمام مالك يطلب العلم
صغيرا فحفظ القرآن ثم اتجه لحفظ الحديث، ثم لازم علماء المدينة المنورة ومن أبرزهم:
الإمام نافع مولى سيدنا عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، والإمام ابن هرمز، والإمام
الزهري وغيرهم.
يقول الإمام مالك:
"قلت لأمي: أذهب فأكتب العلم؟ فقالت: تعال فالبس ثياب العلم، فألبستني ثيابا مشمرة،
ووضعت الطويلة على رأسي وعممتني فوقها ثم قالت: اذهب فاكتب الآن. وكانت تقول: اذهب
إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه."
وقد رُوي عن مالك أنه قال:
"كنت آتي ابن هرمز
من بكرة فما أخرج من بيته حتى الليل".
شيوخه:
أخذ عن خلق كثير وهم في
الموطأ وأشهرهم:
ابن هرمز، وأبو الزناد،
ونافع، وربيعة، وابن شهاب، ويحي بن سعيد الأنصاري، وسعيد المقبُري، وعامر بن عبد الله
بن الزبير، وابن المنكدر، وعبد الله بن دينار.. وقد أفردهم بعض أهل العلم بمصنفات خاصة.
توقيره للعلم ولحديث النبي
صلى الله عليه وسلم:
كان من توقيره للعلم أنه
لا يُحَدِّث إلا على طهارة، ولا يحدث أو يكتب حديثا واقفا، وكان لا يفضل على المدينة
بقعة سواها.
ما رُوي في مناقبه:
فضائله ومناقبه كثيرة جدا،
لكن نذكر من أهمها ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليضربن الناس أكباد الإبل
في طلب العلم، فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة"
ورُوي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرج ناس من المشرق والمغرب
في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة"
ويُروى عن ابن عيينة أنه
قال: "كنت أقول هو سعيد بن المسيب، حتى قلت: كان في زمانه سليمان بن يسار وسالم
بن عبد الله وغيرهما! ثم أصبحت اليوم أقول إنه مالك، لم يبق له نظير بالمدينة".
ثناء العلماء عليه:
قال عنه أمير المؤمنين
أبو جعفر أنه: "أعلم أهل الأرض".
قال شيخه ابن هرمز:
"إنه عالم النّاس".
وقال له شيخه ابن شهاب:"أنت
من أوعية العلم".
وقال سفيان بن عيينة:
"مالك سيد المسلمين". وقال: "مالك سيد أهل المدينة". وقال أيضا:
"مالك عالم أهل الحجاز وهو حجة زمانه".
وقال الإمام الشافعي:
"إذا ذُكِر العلماء فمالك النجم". وقال أيضاً : " مالك بن أنس معلمي
وما أحد أمنّ علي من مالك, وعنه أخذنا العلم وإنما أنا غلام من غلمان مالك".
وقال أبو يوسف: "ما
رأيت أعلم من ثلاثة: مالك، وابن أبي ليلى، وأبي حنيفة".
وقال أحمد بن حنبل:"مالك
أحسن حديثا عن الزُّهْري من ابن عيينة, ومالك أثبت الناس في الزُّهْري". وقال:
"إذا لم يكن في الحديث إلا الرأي فرأي مالك".
من المواقف المشرقة في
حياة الإمام:
أن المهدي قدم إلى المدينة
فبعث إلى مالك فأتاه فقال لولديه هارون الرشيد وموسى: اسمعا منه. فبعث إليه فلم يجبهما
فأعلما المهدي فكلمه فقال: يا أمير المؤمنين العلم يؤتى أهله، فقال: صدق مالك، صيرا
إليه، فلما صارا إليه قال له مؤدبهما: اقرأ علينا، فقال: إن أهل المدينة يقرؤون على
العالم كما يقرأ الصبيان على المعلم فإذا أخطئوا أفتاهم. فرجعوا إلى المهدي فبعث إلى
مالك فكلمه فقال مالك: سمعت ابن شهاب يقول جمعنا هذا العلم في الروضة من رجال وهم يا
أمير المؤمنين سعيد بن المسيب وأبو سلمة وعروة والقاسم وسالم وخارجه بن زيد وسليمان
بن يسار ونافع وعبد الرحمن ابن هرمز ومن بعدهم أبو الزناد وربيعة ويحيى بن سعيد وابن
شهاب كل هؤلاء يُقرأ عليهم ولا يقرؤون. فقال المهدي: في هؤلاء قدوة، صيروا إليه فاقرؤوا
عليه ففعلوا.
تلاميذه:
أحصى الحافظ الذهبي من
الآخذين عن الإمام مالك ما يزيد عن ألف وأربعمائة، ومن أشهرهم:
الإمام عبد الرحمن بن القاسم
حافظ فتاوى الإمام مالك، وعبد الله بن وهب الحافظ لحديث رسول الله، والفقيه البارع
أشهب ابن عبد العزيز القيسي، والفقيه النظار أسد بن الفرات، وعبد الملك بن عبد العزيز
الماجشون، والإمام محمد بن إدريس الشافعي.
انتشار مذهب أهل المدينة
(المذهب المالكي):
كان مذهب أهل المدينة الذي
كان مالك أعظم أئمته قد طَبَّق الأرض وانتشر في القرون الأولى المفضلة في الحجاز ونجد
والعراق ومصر والمغرب، وكان أعظم المذاهب وأوسعها انتشارا وكان مذهب بني أمية وبني
العباس، وبقي هو المذهب السائد في جزيرة العرب إلى عهد الإمام ابن فرحون المتوفى سنة
799هـ القائل في كتابه "الديباج المذهب" :
((فغلب مذهب مالك رحمه
الله على أهل الحجاز والبصرة ومصر وما والاها من بلاد أفريقية والأندلس وصقلية والمغرب
الأقصى إلى بلاد من أسلم من السودان إلى وقتنا هذا، وظهر ببغداد ظهوراً كثيراً، وضعف
فيها بعد أربعمائة سنة، وضعف بالبصرة بعد خمسمائة سنة، وغلب من بلاد خراسان على قزوين
وأبهر، وظهر بنيسابور أولاً وكان بها وبغيرها له أئمة ومدرسون يأتي ذكرهم وكان ببلاد
فارس وانتشر باليمن وكثير من بلاد الشام..)) اهـ.
ثم إن دولة الجَبْرِيِّـين
التي منها الملك الشهير أَجْوَدُ بن زامِل العقيلي الجبري رئيس بني جبر، الذي ملك نجدا
والأحساء والخليج العربي وعمان كان مالكي المذهب، واعتنى بنشره، وبقي بنو جبر ملوك
تلك النواحي إلى القرن العاشر الهجري ومذهبهم مذهب أهل المدينة.
ثم لما حكم السعوديون في
القرن الثالث عشر انتشر المذهب الحنبلي، وضعف مذهب أهل المدينة في الحجاز ونجد وبقي
في مناطق من نجد والأحساء والخليج العربي، أما أفريقيا فمالكية.
آثاره:
خلَّف مالك مئات التلاميذ
الذين صاروا أئمة، وحفظ مذهب أهل المدينة في المسائل المشهورة بالمدونة الكبرى، وهي
مجموعة مسائل فقهية تبلغ نحو 36 ألف مسألة عكف عليها تلاميذه حفظا وشرحا واختصارا وصارت
أهم مراجع الفقه الإسلامي.
كما حفظ أشهر وأصح أحاديث
أهل الحجاز في كتابه الشهير "الموطأ" الذي اشتغل في تأليفه ما يقرب من
40 سنة، وهو كتاب الحديث الأقدم بين أيدينا الذي طبقت شهرته الآفاق، واعترف الأئمة
له بالسبق على كل كتب الحديث في عهده وبعد عهده إلى عهد الإمام البخاري ومسلم اللذين
أدرجا الموطأ في صحيحهما فنال بذلك الصحيحان ما ناله الموطأ.
قال الإمام الشافعي:
"ما أعلم في الأرض كتاباً في العلم أكثر صواباً من كتاب مالك"، وفي رواية:
"أصَحّ" وفي رواية: "أنفع".
قال البخاري: "أصح
الأسانيد كلها: مالك عن نافع عن ابن عمر".
قال القاضي أبو بكر بن
العربي في "عارضة الأحوذي":
"الموطأ هو الأصل
واللباب، وكتاب البخاري هو الأصل الثاني في هذا الباب، وعليهما بَنَى الجميع كمسلم
والترمذي".
هذا وتنسب للإمام كُتُب
لا تبلغ شهرة المدونة والموطأ، بعضها صحيح النسبة وبعضها لا يصح.
وفاته:
قال القَعْنَبِي:
"سمعتهم يقولون عُمِّرَ مالكٌ تسعا وثمانين سنة، مات سنة تسع وسبعين ومئة".
توفي الإمام مالك رضي الله
عنه صبيحة أربع عشرة من ربيع الأول، سنة تسع وسبعين ومائة، فصلى عليه أمير المدينة
المنورة عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي وحمل
نعشه بنفسه.
تعليقات
إرسال تعليق